بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 18 أفريل 2012


قراءة في صهيل الروح للشاعر التونسي محمود غانمي

بقلم : عمر دغرير

قراءة في ديوان " صهيل الروح "
للشّاعر التونسي محمود غانمي  


 
قديما كان مفهوم الشعر هو الكلام المقفى الموزون .. ثم جاءت الاضافات تباعا ليصبح صناعة تتوخى اهتزاز الوجدان و العقل عن طريق الوزن و القافية من جهة و الذكرى و العاطفة و الحكمة من جهة أخرى و قد جاء على لسان شوقي :
" و الشعر ان لم يكن ذكرى و عاطفة 
أو حكمة فهو تقطيع و أوزان ..."
وقد اهتدى بعض الشعراء في تجربتهم و تفاعلهم مع الكلمات الى تقديم المشاهد و الصور الواضحة لمخيلة المتلقي كأنها لوحات لأمهر الرسامين بحيث يستعين الشاعر بوسائل تصويرية تقدم المعنى تقديما حسيا مما يجعله نظيرا للرسام و مثيلا له في طريقة التقديم .. يمتلك قدرة خاصة على اثارة صورة بصرية في ذهن القارىء.. و تصبح قصائده لوحات فنية رائعة نستمتع جميعا بقراءتها ...
و بديهي جدا أن قراءة الشعر هي نوع من الخلق و الابداع .. و قراء الشعر يتمثلون ما فيه من مشاعر و تجارب و أخيلة و يعايشون ما رسموه من صور و مناظر في مخيلاتهم بحالة شاعرية قريبة من حالة الشاعر نفسه .. و القارىء الجيد هو الذي ينفذ بسهولة الى عالم الشعر حيث الانتشاء و العجب العجاب ...
و لم يبالغ القاضي الجرجاني عندما وصف كلام الشعراء و صهيلهم:
"
أصوات محلها من الاسماع محل النواظر من الابصار "...
و " صهيل الروح " مجموعة شعرية متميزة للشاعر و الناقد التونسي محمود غانمي ..
ثمانون صفحة قدت بسبع و ثلاثين قصيدة بل لوحة تفصح عبر اللفظ عن الهوية و تعكس الذات الشاعرة و تكشف العشق في أبهى تجلياته .
و في كل لوحة رحلة مع الكلمات و الموسيقى يركب فيها الشاعر بحور الخليل كلها و يعبر تحديات هذا الزمن شاهرا أمام الجميع ألوانا شعرية أصيلة أثبت التاريخ أهميتها في التراث العربي استمدها من المعلقات و البديعيات و الشوقيات و انفرد برسمها مستخدما في آن سلامة النظم و عذوبته و رقة الألفاظ و جمال التراكيب و روعة الموسيقى . و هو شاعر يبحث عن شعر يجدده و يخرج الأشعار من الوهن :
" ما زلت أسأل شعري و هو يسألني 
ان كنت أكتبه أو هو يكتبني ...
و أسأل الناس من عرب و من عجم 
عن شاعر يخرج الأشعار من الوهن ..."
و لأنه يعشق أصالة الكلمة و صدق الاحساس و مصداقية الشكل و عمق المضمون فقد لازمته حيرة السؤال في كل اللوحات حتى اليأس . ساعتها فضل الاستسلام و دعا النقاد لقتل ابداعاته :
"أنا الذي قلت أشعاري معتقة 
فلا اللسان و لا القاموس يقرؤني ...
الآن أبحث في النقاد عن قلم لي 
يقتل الشعر قتلا ثم يقتلني ..."
و بين غزل قيس العذري و مديح المتنبي و غنائية شوقي و تواشيح الحصري و نساء نزار قباني و وطنية عامر بوترعة تجمعنا هذه اللوحات و ترحل بنا نحو الأعماق . أعماق الشاعر و وجدانه ليعترف لنا بحبه لكل النساء الجميلات و بشغفه بالوطن و بحزنه الكبير على من مات و لم يمت من أقرب الناس الى قلبه . 
محمود غانمي يرسم بالكلمات و له في سحر العيون ما يسكر العيون أمام الورقات . و نظرة من عيني الحبيبة تحلل قتل المحب و هلاكه في لحظات :
" لي في عيونك يا منى ما أشتهي 
حب و نظرة عاشق و تجمل ...
عيناك ما أحلاهما في نظرة 
قتل المحب بسهمها لمحلل ..."
كما النظرة الجميلة تميته فان حبه للمرأة الحسناء يعله و يسير به نحو القبر و هو لا يخجل من مصارحة هذه الفاتنة الوردة و يرسم لها أجمل صورة :
اني مريض و دائي حب غانية 
كادت تسير بأطرافي الى رمسي ...
لو كنت أعرف أن الورد يبرؤني 
يممت بالورد من رجلي الى رأسي ..."
و لأنه شاعر رقيق و به عزة الشعراء و أحلامهم المرهفة يحب النساء على طريقته و يبقى حبه عذريا كمن يعشق البدر و البدر بعيد في السماء . و عبر هذه المرأة يحب الوطن و الحرية :
" أنا لا أريدك مثل النساء 
و لكن أريدك مثل الحمام ...
تحطين في القلب رغم الغياب 
و تهدين للكون غصن السلام ..."
هذا السلام الذي ينشده في الكون يدعمه بقصيدة حب للعراق المحاصر و يحلم بالنصر القريب :
" أنا الحلاج أمضي للفرات 
و أفتح في الحصار لكم سبيلا ..."
و من الوطن الكبير الى الوطن الصغير يبرز لنا الشاعر في صوره و لوحاته حبه الكبير للوطن الصغير تونس و من خلالها شغفه بالقيروان و توزر و المكناسي مسقط رأسه و هيامه عشقا في شوارعها و مساجدها و زواياها و نخيلها و خيولها العربية الأصيلة و قد خص مدينة المكناسي بقصيد هو صورة نلطقة لمدينة عرفت بأصالة خيولها العربية و كرم أهلها الأوفياء:
"بلادي مكناسي و أهلي أهلها 
و تونس أم الشعب للجمع تلأم ...
أعدوا بني أمي سروج خيولكم 
فاني بخيل عندكم لمتيم ..."
لقد كان الانفعال المرئي و الغنائي للشاعر بألوانه و صوره المتعددة لوحة رائعة للتمزق بين الفرح و اليأس و الحب و الحلم و الحزن معانقا الوجود بشاعرية معذبة باحثا عن الكمال و الجمال في كل زمن . مرتبطا بروح التجدد و الديمومة . مقرا بأن الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية .
و حتى في الفترات الحرجة و الذكريات الأليمة و المواقف الحزينة يظل الشاعر يرسم بالكلمات ما يعجز عن رسمه أمهر الرسامين خاصة في المرثيات . ففي قصيد أهداه الشاعر الى روح الأستاذ المرحوم حمادي الزنكري يقدم لوحة رائعة في تركيبتها و ألوانها الحزينة :
" و لما بكاك الأهل للحزن بالعيون 
جفت فقامت للبكاء قلوب ...
فبالعين يبكيك الخليل و بالقلب 
نبكيك أستاذي و نحن قلوب ..."
هذا المشهد المؤثر جدا هل يمكن للرسام أن ينقله في لوحاته ؟...هل يمكن للرسام أن يبرز بكاء القلوب كما نلحظه في هذا المشهد الشعري ؟ لا أظن ذلك فهي خاصية من خاصيات الشاعر الرسام و قليلون هم الشعراء الرسامون في الزمن الحاضر و أقل بكثير الرسامون الشعراء .
و محمود غانمي شاعر رسام عرف كيف يعرض رسومه و يقتحم زمن العولمة و يقول كلمته بكل ثقة في النفس . فحتى المرأة التي يحبها و يتيه في سحر عيونها . نجده ينتقدها بشدة في قصيدة غنائية نسجها على منوال أغنية جميلة أطربت كل العالم العربي :
" قل للمليحة في السروال كالرجل 
ماذا فعلت بحسن المرأة الخجل ؟...
قد كان حسنك في الفستان يستره 
فصار كالسيف بعد الغمد في النغل ..."
و هي فكرة طريفة استأنس بها الشاعر و أقبل عليها القارئ برغبة كبيرة فطرب لقراءتها و سماعها و هي ليست القصيدة الوحيدة التي اتخذت هذا الشكل فهناك قصائد أخرى في المجمعة تذكرنا بشعراء مشهورين في الساحة العربية .
كلمة أختم بها هذه القراءة في لوحات الشاعر محمود غانمي فأقول له :
"
لقد امتطيت قطار الشعر و لن تكون في آخر عرباته فهناك ركاب ينتظرون قدوم القطار في محطات قادمة و يستمر السفر ..."


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق