دراسة منقولة لتعميم الفائدة
وجه المسرح الباكي"التراجيديا"-إبراهيم محمود الصغير | |
أصبح مصطلح (تراجيديا) كلمة شائعة لدى عامة الناس في كل أرجاء العالم، وليس لدى المثقفين والعاملين في المسارح فقط، وهم يطلقونه على كل رواية أو عمل مسرحي أو سينمائي أو تلفزيوني ينتهي نهاية مأساوية مفجعة. ومع أن كلمة (تراجيديا) هي في الأصل مصطلح مسرحــــــي، إلا أنها أصبحت تطلق على كل ما يمكن أن يُصادف في الحياة من أحزان وآلام وفواجع ومشاكل وصعوبات (حياة تراجيدية، شخصية تراجيدية، علاقة تراجيدية، فيلم تراجيدي... وهكذا).
فما تعريف التراجيديا، وما هو أصل الكلمة؟ هناك تعريفات كثيرة للتراجيديا، ولكن من أقوى التعريفات لها، والتي مايزال معمولاً بها إلى الآن، هو تعريف (أرسطو) الذي ساقه في كتابه (فن الشعر)، حيث ورد فيه: «التراجيديا محاكاة لفعل جاد، كامل، له طول معين، بلغة ذات إيقاع ونشيد.. وتتم هذه المحاكاة عن طريق أشخاص يفعلون، لا عن طريق السرد، على أن تثير عاطفتي الخوف والشفقة، مما يؤدي إلى التطهير (كاثارسيس)»(1). وعملية التطهير عند (أرسطو) تعني: «أن مشاهدتنا للتراجيديا تثير فينا الرعب والخوف والشفقـــة، وتبعث فينا القلق والتوتر، إلى حد كبير. وعندما تنتهي المسرحية نشعر بالراحة والسعادة والرضــــــى. لأن مــــــــــــــــــا حــــــدث أمامنا من مآسٍ فظيعة ما هي إلا تمثيل، وأنها حدثت لأناس غيرنا، وليست لنا»(2). والمحاكاة تتم بواسطة أشخاص، وعن طريق التمثيل، وليس عن طريق الحكاية. أما اللغة المستخدمة في التراجيديا فهي الشعر الفخم، والذي يرافقه الإيقاع والألحان والأناشيد. والفعل عند (أرسطو) أهم من الشخصية، والموسيقى هي أهم ألوان الزينة اللغوية. أما فيما يتعلق بالمنظر فوجوده أو عدم وجوده سيّان، لأنه لا علاقة له بقوة التراجيديا. ويرى (أرسطو) أنه ينبغي أن تكون التراجيديا متوسطة الطول حتى لا تُمل، وأن تشتمل على بداية ووسط ونهاية، وأن تكون هناك وحدة الفعل، أي لا تختلط العقدة الأساسية بعقدة ثانوية، وأن يكون لها موضوع واحد، حتى لايتشتت انتباه المتفرج، وتتحول الأنظار عن البطل إلى أشخاص آخرين، مما يضعف التراجيديا. أما بالنسبة للزمن فمدته (24ساعة)، وهذا ما يقصد به (أرسطو) وحدة الزمان. والأحداث التي وقعت في الماضي، قريباً كان أم بعيداً، فتروى على لسان الشخصيات، أو يرويها (الكورس). أما وحدة المكان فلم يتحدث عنها (أرسطو) ولم يذكرها، وكل ما في الأمر أن منظري الكلاسيكية الجديدة في القرن السابع عشر أضافوا وحدة المكان هذه، وقالوا إن الفعل يجب أن يكون ضمن مكان واحد. مع أن الفعل في التراجيديا اليونانية، يمكن أن يجري في أماكن مختلفة. وكذلك، كل تراجيديا، عند (أرسطو) تحتوي على ما يسمى (بالتحول) أو (الانقلاب)، أي الانتقال من السعادة إلى التعاسة مثلاً وبالعكس، كما تحتوي أيضاً على (التعرف) أي الانتقال من الجهل إلى المعرفة، يعني أن تنتقل الشخصية من المحبة إلى الكراهية، أو بالعكس. والكاتب أو الشاعر العبقري، عند (أرسطو)، هو الذي يستطيع حل عقدة تراجيديته، والتي يجب أن تكون بارعة الحكاية، وجيدة الحبكة، لطيفة في حلها. وعنده أن للمفاجأة دوراً كبيراً، وتأثيراً بليغاً في الجمهور. ويرى أيضاً أن الحبكة يجب أن تكون في الأمور المحتملة الوقوع، لا في الحياة الواقعية نفسها، وأن تكون الشخصيات أنماطاً يحتذى بها، ولهذا يفضل (أرسطو) أن تؤخذ هذه الأنماط من التاريخ(3). أصل ومنشأ التراجيديا: تمتد أصول التراث المسرحي في العالم الغربي إلى اليونان، القرن السادس قبل الميلاد، حيث اتخذت الخطوة الهامة الأولى نحو التشخيص الدرامي، وكانت معظم الحضارات القديمة قد عرفت الرقص الإيمائي والإلقاء والغناء، التي هي العناصر الأساسية في التمثيل. وفي اليونان القديمة تكمن أسس تطور الدراما التراجيدية والتمثيل في القصائد الحماسية والرقصات الجماعية الطقوسية التي تقام لتمجيد (ديونسيوس) إله الخمر والخصب(4). لذلك فإن المسرح، وخاصة التراجيديا، نشأت نشأة دينية في أحضان طقوس عبادة الإله (ديونسيوس). وكانت أسطورة (ديونسيوس) قد أمدت (أسخيلوس) بموضوعات تراجيدية كثيرة، ولجأ إليها (يوريبيدس) أيضاً. أما (سوفوكليس) فقد أولى عناية خاصة للأساطير التي حفل بها موطنه، وذلك مثل أساطير (ثيسيوس، وفايدرا وأيون وثيريوس وبروكريس)(5). إذاً، فمن صلب الاحتفالات التي كانت تقام على شرف الإله (ديونسيوس)، نشأت الدراما والمسرح اليونانيان، حيث أن اليونانيين كانوا يعتبرون (ديونسيوس) هو إله القوى المنتجة في الطبيعة، لذلك فقد تصوروه على شكل ماعز أو ثور. إلا أنهم، بعد أن تعرفوا على زراعة الكرمـــــــــة، أصبح (ديونسيوس) إله الخمر ثم إله الشعر والمسرح. وكانت أعياد واحتفالات (ديونسيوس) تقام عدة مرات في السنة، وكانت تغنّى فيها بعض أغاني المديح (ديفرامب) تمجيداً له. وكانت تتخلل الاحتفالات، عادة، ألعاب يقوم بها أشخـــاص متنكــرون، هم حاشية (ديونسيوس)، وكانوا يمسحون وجوههم ببقايا النبيذ ويضعون أقنعة، ويلبسون جلود الماعز. وفي هذه الاحتفالات كان هناك نوعان من الأغاني، هما المرحة والحزينة. فالأغاني الحزينة كانت أساس التراجيديا، والأغاني المرحة كانت أساس الكوميديا. فالتراجيديا، كما يقول (أرسطو) بدأت في أغاني المديح (الديفرامب)، والكوميديا من الأغاني التي تمجد قوى الخصب في الطبيعة(6). وهذه الأغاني كانت تجيب على أسئلة الجوقة (الكــــــــورس)، وبوسعها، وهي في معرض الإجابة، التحدث عن حوادث من حياة الآلهة، وتحرض الجوقة على الغناء. وفي عملية السرد والتحدث هذه كانت بدايات التمثيل. إن عبـــــــارة (التراجيديا) مؤلفـــــــة مـــــــن كلمتين يونانيتين هما (تراغوس – Tragos) وتعني الماعز، و(أود – Ode) وتعني الأغنية، أي (أغنية الماعز)، لأن مرافقي (ديونسيوس)، كما ذكرنا، كانوا يلبسون جلود الماعز، أو من أغاني (الكورس) الذين كانوا يرتدون جلود الماعز. وقد كان للماعز في الديانات القديمة، أهمية مميزة، فاليونان اعتبروا الماعز أنه أكثر الحيوانات خصوبة، وأن خصوبته متصلة بشكل وثيق بخصوبة الأرض(7). ولأن (ديونسيوس) هو إله الخصب لدى اليونانيين، فقد تصوره على شكل ماعز، كما مرّ بنا. الأسطورة في التراجيديا اليونانية: نلاحظ لدى دراستنا للتراجيديا اليونانية، أن الأسطورة هي أساس الفن اليوناني، لذلك كانت حوادث ومواضيع التراجيديا أسطورية، إلى جانب الأسطورة التي تركز على الإله (ديونسيوس) فهناك القصص التي تناولت مصائر الأبطال القدامى، أمثال (أوديب، وآغاممنون، وهرقل) وغيرهم. لقد استفادت التراجيديا اليونانية في مسيرة تطورها، من الأسطورة، إذا اقتبست معظم مواضيعها منها. ولعلّ السبب يرجع إلى عمق الأسطورة اليونانية وقيمتها الفنية العالمية، وكان سبب ظهور هذه الأسطورة، الرغبة في تفسير العالم المحيط، كما أن لها علاقة وثيقة بالدين. ومما ساعد أيضاً على نمو الأسطورة وانتشارها، أن اليونانيين لم يكونوا متشددين تجاه تصوير الآلهة على شكل بشر. لذلك، فقد اغتنت الأسطورة اليونانية بالعناصر الحياتية، أي لم تكن دينية صرفة. فالتراجيديا اليونانية إذاً، تعتمد كلياً على الأسطورة، ولكن من خلال الغلاف الأسطوري. فمن خلال الشكل الأســـــــطوري، استطـــــــاع الكـــــــاتب المـــــــسرحي اليوناني التعبير عن حياة مجتمعه المعاصرة، والتعبير، أيضاً، عن آرائه السياسية والفلسفية والأخلاقية. لقد جعلت الأسطورة التراجيديا فناً شعبياً وغير عادي، لأنّ المتفرج كان يصادف في كل مسرحية شخصيات وأحداثاً معروفة جيداً بالنسبة له. وهذا يساعد بدوره على اكتشاف الأسطورة نفسها، بعد أن صاغها الخيال الإبداعي للكاتب المسرحي(8). تطور التراجيديا اليونانية: قلنا، إن التراجيديا اليونانية، نشأت بداية في أحضان طقوس عبادة الإله (ديونسيوس)، ثم خرجت شيئاً فشيئاً إلى أحضان الشعب لتصبح وسيلة ترفيهية وتربوية وتعليمية أساسية وفعالة، وقد أنشئت من أجلها المسارح والمدرجات العظيمة، وأقيمت المسابقات لاختيار أفضل العروض المسرحية لكتّاب التراجيديا المعروفين آنذاك ومن أشهرهم: (أسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس) الذين كتبوا النصوص التراجيدية الدينية، والتي كانت تهتم بالعلاقة الأخلاقية ما بين الآلهة والناس، وعادة يكون لها هدف أخلاقي تعليمي. فالمدرجات العظيمة كان تغصّ بالمشاهدين، وكان الممثلون، الذين يلبسون الأقنعة، يتحركون بحركات غاية في الفخامة وينطقون بالأبيات الشعرية الرائعة، بينما كان (الكورس) يتدخل أحياناً، ليعلق على القصة ويشير إلى المكامن الأخلاقية الموجودة في القصة. ونادراً ما تكون القصة مبتكرة، لأنها كانت تؤخذ من أسطورة تكون معروفة للمشاهدين. وهناك شيء رائع حول كتّاب التراجيديا، هو إدراكهم وإحساسهم بالشكل والبناء المسرحي. وكان اهتمامهم الرئيس أن يحكوا للناس حكاية، وأن يؤكدوا على الدلالة الأخلاقية للحكاية. لأن كل شيء قد أخضع من أجل النهاية(9). لقد لعبت العروض التراجيدية دوراً تربوياً في المجالات السياسية والاجتماعية والأخلاقية وقد تطورت التراجيديا تطوراً ملحوظاً في النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، واستخدمت التراث الملحمي اليوناني بشكل واسع. ومن أبرز من لعب دوراً في تطوير التراجيديا (فسبيد) الذي تعود إليه عملية فرز ممثل من نوع خاص، من الجوقة. وهذا يوضح أن الجوقة هي التي كانت تلعب الدور الرئيس في التراجيديا، وكانت مرتبطة بعبادة (ديونسيوس). وكان أفرادها يرقصون على شرف هذا الإله. ولكن عندما تطورت التراجيديا، ظهر الممثل الواحد، ومهمته محاورة قائد الجوقة. كان (فيسبيد) أول كاتب تراجيدي أثيني، وقد عُرض أول عمل له في ربيع عام (534 قبل الميلاد)، وكان ذلك بمناسبة احتفالات (ديونسيوس)، ويعتبر هذا العام، العام الذي ولد فيه المسرح. ثم جاء (فرينيكوس) تلميذ (فيسبيد)، الذي كتب تراجيديا (الاستيلاء على ميلاتا) مصوراً الأحداث المعاصرة له، وعلاقته أو موقفه منها. وجاء (أسخيلوس)، بعد ذلك ليضيف ممثلاً ثانياً، وقدم بذلك إمكانية لجعل الصراع التراجيدي أقوى وأكثر تماسكاً. وهذا بدوره، صعّد الجانب الفعلي في العرض المسرحي. وكان ذلك انقلاباً في المسرح. فقد ظهرت تراجيديا جديدة، تختلف عن التراجيديا القديمة، التي ليس فيها إلا القليل من الفعل والمقاطع الغنائية، التي تمتلئ بها المسرحية، ويرددها ممثل واحد مع الجوقة. ففي تراجيديا (أسخيلوس) الجديدة، تصطدم الشخصيات مع بعضها، ويتولد من ذلك صراع. وأضاف معاصره (سوفوكليس) ممثلاً ثالثاً، والذي أصبح الفعل المسرحي بفضله أكثر حيوية. وأبدى اهتماماً عظيماً بالتعبير عن الفعل والمعاناة الداخلية للأبطال. وقد ضاعف من الأجزاء الحوارية، وقلل من الأجزاء الغنائية، إلا أن الجوقة ظلت تحافظ على الدور الأساسي في التراجيديا، وزاد عدد أفرادها إلى (15). إنّ ميل (سوفوكليس) إلى تصوير المعاناة الفردية، جعله يرفض الثلاثيات المتكاملة، ولكنه حافظ على تقليد تقديم ثلاث تراجيديات للمسابقات المسرحية، بحيث تعتبر كل تراجيديا عملاً مستقلاً تماماً. كما أدخل (سوفوكليس) فن الديكور إلى المسرح. وأصبحنا نجد في أعمال (سوفوكليس) شخصيات إنسانية، على الرغم من أنها مرفوعة قليلاً فوق الواقع. ولذلك يقال عنه بأنه هو الذي أرغم التراجيديا على النزول من السماء إلى الأرض. وبما أن العدد النهائي الذي وصل إليه الممثل هو ثلاثة، أي أن الدراما اليونانية توقفت عند ثلاثة ممثلين، فقد اضطر نفس الممثل إلى أداء أكثر من دور. وأصبحت التراجيديا على يدي (يوريبيدس) شيئاً آخر تماماً، غير الذي عرفناه عند (أسخيلوس) و(سوفوكليس). فقد قرّب أبطاله من الواقع، وقدّم الناس كما هم عليه. وعلى الرغم من أن شخصياته ظلت أسطورية، إلا أنها ارتدت أفكارَ ومشاعر وأحاسيس الناس الذين عاصرهم. لقد استطاع (يوروبيدس) كفنان، التغلغل في عالم المعاناة الداخلية للإنسان أكثر من (سوفوكليس). ويتميز أيضاً بمهارته وقدرته المدهشة على تقديم الشخصيات النسائية، ويعتبر بحق، العارف بطبيعة المرأة. لقد حقق الفن المسرحي، في القرن الخامس قبل الميلاد، أعظم إنجازاته الإبداعية على يد ثلاثة كتّاب عظام هم: (أسخيلوس وسوفوكليس ويوروبيدس) ثم (أريستوفان) الذي اشتهر في بداية القرن الرابع قبل الميلاد، بما كتبه من كوميديات. وكان هناك كتّاب آخرون، ولكن لم تصل إلينا أعمالهم(10). البطل التراجيدي والصراع: إن الصراع هو قوام المسرح كله. الصراع بين قوتين متناقضتين على اتساع المجتمع، أو في داخل النفس الإنسانية الواحدة. أما الصراع في التراجيديا فيتميز بلون خاص منفرد. إنه صراع مستحيل، ونتيجته مقررة سلفاً. فالإنسان في مواجهة القدر، كما في التراجيديا اليونانية، فقد تقرر هلاكه حتى قبل أن يخوض المعركة، لأنه يجابه قوة خارقة لا قِبل لإنسان بها(11). ولا يختلف نوع الصراع من جيل إلى آخر، أو من عصر إلى عصر، أو مـــــــن أمـــــــة إلــــــى أمـــــــــة، فالصراع هو صراع، إما أن يكون ضد القدر (كما في التراجيديا اليونانية) أو لنقطة ضعف موجودة داخل الإنسان (كما في التراجيديا الشكسبيرية) أو لأسباب وعوامل خارجية (عادات وتقاليــــــــد، سلطة غاشمة، علاقات غير شرعية...الخ)، كما في (التراجيديا المعاصرة). وتعود قوة الكاتب التراجيدي إلى مهارته وبراعته في إيصال هذا الصراع إلى المشاهدين بالشكل المقنع والمؤثر، عبر معالجة موضوعية لأحداث مسرحية، تؤدي إلى إيصال الفكرة التي يريد إيصالها إلى المشاهدين، ولكن بشكل مثير ويمتع المشاهد، ويزوده بتجربة إنسانية جديدة، أو بعبرة أخلاقية نافعة. ومما يدعو إلى الإعجاب أن كثيراً من التراجيديات اليونانية أو الشكسبيرية، مازالت إلى الآن موضع إعجاب وتقدير كافة المشاهدين على اختلاف أذواقهم وأجناسهم. ومازالت تعرض على كافة المسارح العالمية، وقد تحول بعضها إلى أفلام سينمائية وإلى (أوبريتات) موسيقية وغيرها. كما أصبحت حقلاً غنياً للأبحاث والدراسات والنقد على كافة الصعد الأدبية والفنية والفكرية والنفسية وغيرها. والدارس للتراجيديات اليونانية والشكسبيرية سوف يجد اختلافاً واحداً ما بين المفهوم اليوناني للتراجيديا، والمفهوم الشكسبيري « فالبطل الشكسبيري يملك قوة الاختيار، ولديه الإرادة الحرة، ولكن نقطة ضعف في شخصيته هي التي تؤدي إلى هلاكه وسقوطه. (فماكبث) مثلاً يؤدي به طموحـــه، و(عطيل) تؤدي به غيرته، و(هاملت) يؤدي به تردده وعدم اتخاذه القرار الحازم. وكان يمكن لهؤلاء الثلاثة أن يجعلوا من أنفسهم أشخاصاً أفضل. وكان يمكنهم أن يتعلموا كيف يسيطرون على نقطة الضعف الموجودة فيهم. لا شيء خارج ذواتهم يمنعهم من اختيار الطريق الصحيح الذي يعارض الخطأ أو الطريق المأساوي. ولكن مع أبطال التراجيديا اليونانية فليس هناك إرادة حرة. الآلهة تسيطر على مصير الإنسان، والإنسان لا يستطيع أن يجابه الآلهة»(12). إن الشيء الذي يجمع ما بين أبطال التراجيديا اليونانية والشكسبيرية هو أنهم يناضلون إلى آخر لحظة، ولا يستسلمون أبداً، مع علمهم بنهايتهم المحتومة. إن الذي يحسم مصير البطل التراجيدي هو قوانين الوجود، ونظامه الصارم. ونبل التراجيديا يكمن في هذا الموت المحتوم؛ يكمن في أن البطل المقضي عليه، يقاوم مع ذلك حتى النفس الأخير؛ لا بغرض الإفلات الملفق، ولا لغرض نفعي طارئ، ولكنــــــــــــه يقف بقــــــــــــوة وعنــــــــــــاد وصلابة متحدياً أهوال المصير، تحقيقاً لذاته الإنسانية، ولطبعه البشري الخالص، وتأكيداً لموقفه الإنساني العصي على الاستسلام، كاشفاً في صراعه المهيب أسرار النفس الإنسانية، وأسرار الوجود. إن (أوديب) نُكب نكبته وهو يفتش عن قاتل الأب بكل ما في هذه القضية من شمول. (وماكبث) لقي مصرعه وهو يناضل في استماتة لتحقـــــــــيق أطماعـــــــــه المستحيلة»(13). (وبروميثيوس) لم يستـــــــــسلم للإله (زيـــوس). صحيح أنه سقط، ولكنه انتصر في حمأة هذا الصراع التراجيدي، لأن إرادته كانت أقوى من تهديدات (زيوس)(14). الموت التراجيدي إذاً، موت فلسفي، موت يطرح فوق خشبة المسرح، قضية فلسفية أو أخلاقيــــــة، أي تتعلق بالطبع وبطبيعة تكوين الشخصية الإنسانية. ولكل كاتب تراجيدي فلسفته الخاصة، وفكره الخاص. وقد كانت فلسفة التراجيديا اليونانية تتميز بتصوير الصراع الأزلي بين الإنسان وقوى الطبيعة المجهولة الغاشمة. وكانت فلسفة (شكسبير) التي تبسطها تراجيدتاته، هي أن الصراع الأزلي ناشب بين الإنسان وطبعه المتطرف، بين الإنسان وهوس في صميم شخصيته يصرعه في النهاية. لقد نقل (شكسبير) الصراع التراجيدي إلى الأرض، ومن وراء الطبيعة إلى مسرح النفس الإنسانية (15). التراجيديا العربية: لم يعرف العرب المسرح، وبالشكل الغربي المعروف، إلا ما بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد لجأ رواد المسرح العربي، وعلى رأسهم (مارون النقاش ويعقوب صنوع وأبو خليل القباني وجورج أبيض) وغيرهم، إلى اقتباس وترجمة المسرحيات والتراجيديات الغربية إلى اللغة العربية. إلا أن الجماهير العربية ظلت بعيدة، نوعاً ما، عن المسرح لأسباب عديدة « فهناك من يقول إن المسرح العربي ولد وتطور غريباً عن المجتمع العربي نفسه، وما هو إلا تقليد للشكل الغربي، وإن ظاهرة المسرح في الثقافة العربية، لها خصوصية تميزها عن المكونات الأخرى في هذه الثقافة، كونها ولدت غريبة عن الذات الثقافية العربية»(16). وصحيــــــــح أن الــرواد المسرحيين الأوائل، لم يبدعوا في الكتابة للمسرح من ذواتهم، وبروح عربية، وظلوا ينهلون من المسرح الغربي، ترجمة واقتباساً واتباعاً لمنهجه، إلا أننا لا نعدم وجود بعض النصوص والأفكار ذات النكهة العربية، كما في مسرح (أبي خليل القباني) وغيره. ومن الملاحظ، وأنه حتى اليوم، لا توجد تراجيديات عربية صرفة، كما ألفنا في التراجيديات اليونانية والشكسبيرية، تعتمد على الصراع ضد القدر، أو نقطة ضعف موجودة في الإنسان، وإنما نجد التراجيديا في المسرحيات العربية ممزوجة مع الكوميديا (ميلودراما) أو مع المشكلات الحياتية والأزمات الاجتماعية والسياسية والفكرية وغيرها. ومنذ ستينيات– القرن العشرين– ظهرت الدعوة إلى البحث عن مسرح عربي في الشكل والمضمون، وقد نهض لهذه المهمة كثير من كتّاب الوطن العربي، ونجح بعضهم في المحاولة لخلق مسرح عربي، هويةً ومضموناً، وفكراً وتاريخاً، فكان نتيجة إبداعهم مسرحيات رائعة مثل: (حلاق بغداد، وعلي جناح التبريزي) للكاتب المصري (ألفريد فرج) (والفرافير) للكاتب المصري (يوسف إدريس)، و(ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب ومقامات بديع الدين الهمذاني) للفنان المسرحي الشامل (الطيب الصديقي) من المغرب، و(الفيل يا ملك الزمان – ومغامرة رأس المملوك جابر وسهرة مع أبي خليل القباني) للكاتب السوري (سعد الله ونوس)، ونصوص أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا. « وبهذا وضعت الصيغة الغربية للمسرح، موضع التضاد مع الصيغة الشعبية الموروثة عميقة الأثر في وجدان الناس. وأصبح الموقف تماماً كما جسّده (سعد الله ونوس) في مسرحية (سهرة مع أبي خليل القباني)، المسرح الجديد في مواجهة (خيمة كراكوز). الأول اتخذ رمزاً للتقدم، والثاني جعل علماً على التخلف»(17). ولنعطي مثالاً على الــــتراجيديا العربية عـــــــــند كاتبين عـــــــــربيين، هما (توفــــــــــيق الحكيم) من مصــــر، و(سعد الله ونوس) من سوريـة. فالأول كتب التراجيديا الفكرية ومثالاً عليها مسرحيته (أهل الكهف) «فمادة المسرحيـــة ليســت هي مصير (ميشلينا) بطل المسرحية، وإنما هي صراع الإنسان مع الزمن، أو الصراع بين الوجود التاريخي، والوجود الواقعي... و(ميشلينا) سقط في هوة الزمــــــــــن، وهو يناضل في دأب ليجعل من وجوده التاريخي حياة واقعية. وفي مسرحيته الأخرى (شهرزاد) ليست مادتها شخصية الملكـة الفاتنة اللعوب، أو قصـــة العلاقـة بين (شهريار) وزوجته الجديدة، التي أحبها، فخلَص بحبها من عاداته الدموية، وإنما مادتها الصراع بين الوجود الميتافيزيقي الذي هو ثبت الفعل الفلسفي المحض، والوجود الواقعي المادي البسيط. (فالحكيم) إذاً، في تراجيدياته ليس مؤلف (حواديت) أو مواقف مسرحية ساخنة، وليس مؤلف نماذج للشخصيات الفذة المتعددة الأوجه الغنية بالأهواء والنزوات، ولكنه غني جداً بفكره وبالتزامه الفلسفي (18). أما الثاني ونعني به (سعد الله ونوس) فإن تراجيدياته (مُسيَّسة)، أي أن ما يطرحه نظرياً وعملياً يهتم بالبنى الفوقية، بالسياسة. ففي نصوصه يتكلم عن الأنظمة عموماً، فالملك دائماً هو الملك، كما في نصه المعروف (الملك هو الملك) فليس مهماً أن يكون (فخر الدين المكين) أو (أبو عزة)، أو (زيد أو عمرو) من البشر. فالنظام هو الذي يحكم، والتاج والرداء وسيلتان، «أعطني تاجاً ورداءً أعطك ملكاً»(19). وفي مسرحية (بائع الدبس الفقير) يصور فيها علاقة السلطة الاستبدادية بالمواطن ويمثل المواطن بشخص (خضور) بائع الدبس الفقير، أما أهل المدينة فهم كالتماثيل المصنوعة من الحجارة، في صمتهم وسلبيتهم»(20).
الهوامش:
1- طبيعة الدراما – الدكتور إبراهيم حمادة – دار المعارف – سلسلة كتابك العدد (26) القاهرة /1977/. 2- Literary Criticism – Musa Khuri – Atlas library – Damascus /1977/. 3- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص – نديم محمد – وزارة التربية – مديرية التدريب – دمشق /1980/. 4- الممثلون والتمثيل: تاريخ التمثيل ترجمة ممدوح عدوان – منشورات وزارة الثقافة – المعهد العالي للفنون المسرحية – دمشق /1977/. 5- بنات تراخيس– سوفوكليس – ترجمة أحمد عثمان– سلسلة المسرح العالمي– العدد (249) الكويت/1997/. 6- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص. (مصدر سابق). 7- English literature – John Burgess Wilson – Longman – London /1970/. 8- الأدب المسرحي: تمثيل ونصوص. (مصدر سابق). 9- English literature. 10- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص (مصدر سابق). 11- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح – ألفريد فرج – كتاب الهلال – العدد (179) القاهرة /1966/. 12- English literature. 13- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح. (مصدر سابق). 14- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص. (مصدر سابق). 15- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح. (مصدر سابق). 16- المسرح العربي بين النقل والتأصيل – كتاب العربي العدد (18) من المقدمة للدكتور محمد الرميحي– الكويت /1988/. 17- المسرح العربي بين النقل والتأصيل. (مصدر سابق). 18- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح. (مصدر سابق). 19- الحياة المسرحية العدد (28-29) وزارة الثقافة – عن مقالة لعبد الكريم عمرين – دمشق /1987/. 20- الحياة المسرحية العدد (45) – وزارة الثقافة – عن مقالة للبانة الشيخ أحمد – دمشق/1998/. المصدر : الباحثون العدد 43 كانون الأول 2011 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق